لماذا اختلاس؟
كتبت مؤخرًا في التويتر، أن شعار مرحلتي هو: “إنما العيش اختلاس”
لكن هل يا تُرى نحن مُجرمين، حتى نختلس العيش لنحيا حياة طيبة؟
وكعادة رأس رهف، تعوم به الأسئلة دون توقف، إلى حين يقضي الله الأمد!
قررت مليًا أن أُجيب، لأرحم هذا الذي يعلو فوق أكتافي من الأرق، ولأُعيد ترتيب أيامي..
مرت علي هذه الأيام الماضية، بأسئلة تكاد تفتك برأسي الصغير، هذا الرأس الحائر، الملبد بغيوم اعتمت الرؤيا… تمضي الأيام أو تمضي بي الدنيا، وأنا واقفة كمن تاه في المطاف، لا هو منتهي من أشواطه، ولا هو واقف سعيد!
انتظرت أن أفرح، وحين جاء وقت الفرحة .. -فرحة تخرجي بشهادة البكالوريوس- باتت باهتة، بسيطة، وكأنني أخذت الشهادة خلسة، لا مع مرتبة شرف وبتخصص أحببته وشغفت به دائمًا..
-بل حتى حين استلامي للوثيقة، كنتُ طريحة الحُمى في غرفة بعيدة بأقصى منزلنا، خشيت لو أني مُصابة بـ الكورونا، ولكن حمدًا لله كان وسواسًا، وإن هي إلا زائرتي الحُمى-
انتظرت طوال الأشهر أو أعتقد السنة كاملة شيئًا ما يعصف بي، يُعيد إلي وهج رهف التي أعتده دائمًا، لا أُنكر أني مررت بتجارب مُذهلة، وعرفت أشخاص رائعين، وتعلمت الكثير من أطفال التوحد أكثر من كل سنوات دراستي، ومرت بي ليالي لطيفة هنية وسعيدة، برفقة الأصدقاء، والأهل والأحباب، ولكنها كانت تركض، كأنها نسمة صيف، أسعدتني، دون رِواء..
كانت نظرتي لا ترى سوى طريق طويل، ذا نهاية غير معروفة، لاحتدام الضباب وتجمعه أمامي، وخطواتي متعثرة، مرتجفة، مثل طفلة تعلمت المشي للتو..
سُرعان ما جاءت الأحداث متوالية عليّ تباعًا، تلك الأحداث تشبه الجلمود الذي حطه السيل من علي..وأنا الواقفة تحته هُناك في الوادي، بهتت روحي بالانتظار، وتعبت أثره من كُل شيء!
أحداث مختلفة، سنة مختلفة، توقف الدراسة المفاجئ، تخرجي المفاجئ دون وداع يليق بسنوات الدراسة حتى، فقدان أشياء كثر بسبب الحجر وأخرى لأسباب مختلفة، كانت أشياء صادمة غيرت مجرى تفكيري، علاقاتي، أسلوبي وحتى بعض أفكاري التي كنت أُحيطها بأسوار ضد التغيير، طالها شيء من الشك، الحيرة، وهل إذا ما كانت تنفع الآن؟
وثارت بي الأسئلة رغماً عني:
هل كان ذلك يستحق؟
هل هذه الإنجاز..إنجازًا فعلًا؟
ماذا أُريد؟
وما الطريق؟
وأسئلة كثيرة أُخرى تُعجن في ذاكرتي، دون توقف..عني، عن علاقاتي، عن أحلامي، عن أحبابي، عن مخاوفي، عن وقتي، وشغفي، ولماذا فعلت هذا، ولماذا لم أفعل ذاك، وعن ماذا أريد أن أكون حاليًا، وماذا بشأن غدًا..
تلبسني تساؤل إليف شفق العاجز حين قالت: ” كم من المسافات علي ركضها لأبتعد عن جوقة أصوات الفوضى التي بداخلي؟”
عرفت بعد أيام وأشهر طويلة..أن الانتظار خُدعة، انتظار شيء ما دون السعي نحوه، أو صنعه أو حتى تصنعه إذا كنت مضطرًا هو.. خدعة، دوامة، وحل يسحبك دون نجاة للأسفل..
أدركت أن حل هذا هو السعي الحثيث لتصفية كُل ما يدور في ذهنك، التوقف جانبًا وطرح كل وشوشة الأفكار والاسئلة، وإسكاتها بشكل منطقي مرضي، وبشجاعة!
الشجاعة في الوقوف أمامها دون الهرب، دون الاعتذار بالنوم، دون الانغماس بشيء تافه حتى أنسى..لأنني ببساطة لن أنسى!
“فالحياة تتسع وتضيق بقدر إقدامنا عليها”
ولا بأس في تضييع وقت في اللاشيء والانتظار قليلًا لالتقاط الأنفاس، دون أن يهدر هذا وقت عظيم من حياتي ،أُشبه هذه المرحلة بلعبة التركيب -puzzle- قد تتشابه القطع علينا وتصعب، ولكن علينا إنهائها حتى نفهم الصورة الكبيرة كليًا..
-في عُمرنا استراحات مختلفة، ولابد أن أعرف يقينًا وشعورًا بأن الاستراحة يعني أن تمضي بعض الوقت في الانتظار، لا كُله-
طرحت الحلول أمامي، أريد الانغماس في كل شيء شغفت به، وأنا حقيقة أحببت أشياء كُثر، حتى أني قد أُسرف في الحروف إن كتبتها كُلها، ولكن أخذن النصيب الأكبر مع القراءة هُما:
التأمل والكتابة، أما الحل الأول، فهو في خضم ما يحدث حولي صعب، ولكني أتمناه، وأسترق لحظات الليل الأخيرة، ولحظات الصباح الأولى حين يهدأ الجميع، في الإستغراق به، والتحدث طويلًا مع ذاتي في أمور شتى.. لأجيب عن هذا كُله بارتياح، شغفت بتأمل اللحظة، بالليل والقمر، والشروق، والغروب، بتأمل تعابير وجوه من حولي، بالضحكات، الوقوف أمام النافذة وتأمل الأطفال والسيارات والطيور، بتأمل النور -فأنا الشغوفة به- وكل ما تقع عيني عليه، تأمل علاقتي مع ربي في كل مرحلة مضت، تأمل لطفه الذي أسبغه سبحانه دون فضل مني، واسترقت لنفسي أوقات خاصة للتأمل في اللاشيء، ومن خلال التأمل شغفت بأشياء أُخرى مثل علم الفلك، الذي أنهيت قراءة كتاب عنه وعدد من المقالات بشأنه وعلوم وأفكار كثيرة..
تعلمت بسبب المكوث في سطح بيتنا للتأمل، تصوير القمر بدقة أفضل عن ذي قبل، ذاك القمر أسرفت حقيقة في تأمله، مرةً أسبح الله على خلقته، ومرةً أتفكر بلونه، ومرات كثيرة بالتقاء عينيّ كل من أحب من خلال النظر إليه، ومرات عديدة بكل المعلومات الفلكية التي قرأته عنه، ومرات أخرى أسبح في خيالات عديدة لا أحتمل كتابتها وإلا تعبت وأوقفت إكمال كتابة المدونة!
من خلال التأمل ايضًا عرفت نفسي، بشكل لم أتخيله، حتى أني ما كنت أظن يومًا بحبي لتعلم أشياء مختلفة، وحرفيًا بدأت الانخراط لتعلم أشياء بعضها أحببتها منذ الطفولة، والآخر اكتشفته متأخرًا، ولكنني أحببت حُبي للتعلم..
ومن خلال التأمل عرفت حقيقة مشاعري تجاه الأشياء والمشاعر، الأشخاص، الأماكن، الذكريات، المواقف، والماضي وبالأخص طفولتي.. أن تعرف شعورك المجرد، هو أعظم شيء قد تهبه نفسك، لا أدعي أني أحطت بكل تلك الأشياء ولكن أمضي في الطريق نحو الإحاطة بها.
-كثير من الأشياء التي أفعلها الآن والتي فعلتها، هي متعلقة بشذرات من طفولتي، بمواقف وأشخاص وأشياء.. تشكلت شخصيتي عبر مواقف وأشياء عديدة، لكن حين تأملت، أدركت أثر طفولتي عليّ-
وبحق أنني لم أكتفي من التأمل ولن أكتفي ابدًا، ما زلت محشوة بكثير من الأسئلة، وحقيقةً أكره تأجيلي للتأمل وللخلو مع ذاتي ولو قليلًا، ولكن لو كان بيدي ما ترددت ابدًا.
”إن التمعن في تفاصيل الأشياء بحثًا عن الجمال في المكان، في الصوت، وفي الضوء كان يسد جميع الثقوب التي أحدثتها الأيام الشاقة في روحي.”
-وأظن أنه سيبقى التمعن والتأمل في كل هذا الجمال، بلسمًا لروحي طِوال حياتي-
ندمت -ندمًا ايجابيًا- أني وصلت متأخرة للتأمل العميق، كان هو مفتاح العجائب، تلك العجائب التي قال عنها السير توماس براون -وإن كنت أبغض أفكاره-:” نحن نحمل في داخلنا العجائب التي نبحث عنها من حولنا”
عن اقتباس السير توماس تذكرت عبارة لأحد شخصيات أفلام استديو جيبلي:
أما الحل الثاني وهو الكتابة..تمنيته كثيرًا وشغفت به، كان هو ملاذي منذ طفولتي، أدركت بأني كما هذا الاقتباس: “أنا كائن كتابي، وحين تفيض بي الأفكار، أو المشاعر، أو المخاوف، أهرع إلى الكتابة كما يهرع المريض إلى الدَّواء، وحرفًا حرفًا، كلمةً كلمة، جُملةً جُملة، أجدني أتعافى، وعرضًا بينما أنا أتعافى تكتمل بين يديك الرِّسالة”.
حين أغضب في صغري.. أهرع لدفتر صغير وردي اللون بسلك نحاسي -جاء هدية من صديقة طفولتي بعد زيارتها للرياض، فكان غاليًا علي لسببين الأول لأنه منها والثاني لأنه من مدينة كبيرة مثل الرياض- كنت أهرع إليه أكتب وأكتب بشغف..قصص، وخيالات غريبة ولطيفة..
أما الآن؟
الكلمات أراها تتقافز إلي احيانًا، واحيانًا لا أعرف قيد هذا الشعور الشاسع في ورقة أو سطر أو كلمة، أو حتى في مذكرة هاتفي، لا زلت أحبها، تخفف عبئي ولكن ليتها على الدوام لا ترحل، تتركني في مطافي وحيدة..
يا ليتها..أو مثل ما أقول في عاميتي.. يا ريتها.
مطافي ..أدركت مؤخرًا أن العيش في بؤس وحزن مضيعة..حتى لو كانت الدنيا غمامة سوداء، ما كان الغمام أسودًا إلا لأنه بشير بالمطر.
وآآهٍ كم هو راسخ شوق المطر في داخلي، وكأنني حُمّلت شوق العالمين للمطر، فروحي عطشة، وقلبي يرنو الاستسقاء.
فكيف يهطل مطر كل واحد منا؟
أعتقد هذا سر، تخبئه دواخلنا، وعلينا مليًا، أن نستفتِ قلوبنا وأرواحنا، ونعقد صلحًا معها، لا نؤنبها ولا نشد عليها بل برأفة وحنية الأمهات نتسامر معها، ثم نركض خلف شغفنا، ونحدد أحلامنا ونسعى لها، في طريقنا نحو ذاك..سيهطل بالتأكيد المطر، ونرتوي.
-أؤمن حقيقة أن بعض الحزن لا يضر، وأن علي عيش حزني كاملًا تمامًا، حتى استيقظ منه يومًا دون أن يعلق في ذاكرتي جزء من أوهامه، لكن كان ذلك مضيعة على قلبي، وكسر لحلمي، وتبذيرًا لطاقتي، بسببه أصبحت أجر أذيالي بخيبة نهاية اليوم، منهكة، مُتعبة، ولا أود العودة لذلك ابدًا، أن تكون طريحًا للحزن، يعني أن يمسك ألم جسدي حقيقي، وذاك ما أضاف لحزني حزن إضافي، حين أرى خوف أهلي البالغ من ذبولي و وهني ومرضي.-
أما بالنسبة لماذا اختلاس؟ لأني مؤخرًا قرأت لشاعري المفضل..بيت شعر، ظل يدور في ذهني، أتخذته شعارًا للمرحلة، ربما لحياتي، ربما سأورثه لأولادي في المستقبل.. لا أدري
يقول ابن زيدون:
“واغتنم صفو الليالي
إنّمـا العيش اختلاسُ”
وظل حين قرأت هذا البيت يلح عليّ هذا التساؤل، تساؤل طفلة الكوميديا السوداء بداخلي: ومتى تصفى يا ابن زيدون حتى اغتنمها؟ ها؟
ومن منطلق رهف الخياليّة، تخيلت لو أن ابن زيدون يرُد على سؤالي المستهزء ذاك، بهذه الإجابة:
“وَلَئِن ساءَكِ يَومٌ فَاعلَمي
أَن سَيَتلوهُ سُرورٌ بِغَدِ”
فاستحييت أن اكسر خاطر ابن زيدون، وظل بسبب الحياء، يحيك بداخلي صوت يقول لي.. “إن كان طريق مرور صفو الليالي بعيدًا عنكِ، فلا بأس بحفر طريق فرعي للوصول إلى ذاك الصفو.. اختلاق الأشياء المحببة إليك..يحتاج مثابرة، ابتهجي باللحظات، دوني أيامك الجميلة، تمسكِ بالتفاصيل الصغيرة القريبة من قلبك، احتضني حُلمك بل أحلامك، أنت الذي رددت يومًا: “أُريد العيش حُلْمًا بعد حُلمٍ” ..وحين تخشي الوقوع في يوم كئيب اقرأي تلك الصفحات المدونة في شظايا كل دفاترك، حادثي من أحببت، وبثي الحب فيمن حولك، امضي نحو حلمك بخطوات وإن كانت واهنة احيانًا، فلا بد أن تصبح الخطوة جريئة قوية يومًا ما، لكل منا مطافه الخاص، اختلسي لمطافك ألطف الذكريات..فالعيش اختلاس مثلما قال ابن زيدون الأندلسي، وإن لم تصفو الليالي!”
لمن يقرأ
وإلي
العيش اختلاس
العيش اختلاس
كرر ذلك، واختلس لعمرك لحظات سعيدة، ابحث عن قبلتك، وأدر بوصلتك نحوها وامضي مُسرعًا، لا تكن كمن تاه في المطاف!
تمت في يوم ممطر..
تحديدًا في الرابع من شهر ذي الحجة| ١٤٤١هـ
الخامس والعشرون من جولاي | ٢٠٢٠
١١:١٠ م
رَهف،