العاشر من أوغست| أريكة غرفتي
عزيزتي جودي أبوت..
منذ مدة وأنت شخصًا مُتكئ في مخيلتي، أُحادثه وأستشيره، أسمع أفكاره واقرأه..نعم اقرأه!
مثلًا حين أتوجه من غرفتي للمطبخ، قاطعة هذه المسافة مُتحدثة إليك، أجد نفسي مُحاولة إقناعك بحديث صامت إلا يديّ تتحرك، أواجه أحد إخوتي حينها..فأضحك خَجله.
(حقيقة أفعل هذا حين أتحدث مع نفسي، ولكن صادفت عدة مرات تكرار هذا الموقف حين الحديث إليك في رأسي)
أكتب لكِ رسالتي هذه بعد أن أطلت النظر في السماء.. المنظر بديع حقًا، عليكِ أن تريه.. إنه شروق الساعة السادسة صباحًا، غرفتي تقبع في الغرب أي أن الشمس بعيدة عني في الجهة الأخرى، أنظر للقمر وقت الشروق يودع الكون بهدوء دون ضوضاء، الحمام يحلق في الأجواء برحابة، والسماء تشتد زُرقتها بمرور الوقت، ألتقطت صور من أجلك، ولكن في الحقيقة إني لست مصورة بارعة حتى أني لم أستطع إلتقاط صور مُدهشة لتحليق الحمام رغم كثرته سوى ما تريه هُنا!
****
مستلقيه على أريكتي ذات اللون الرملي الفاتح، لونها يُشبه رمل الشاطئ البراق، دافئة وحنونة، خلفي مخدة واحدة بيضاء على شكل غيمة، وبجانبي تختبئ النافذة خلف قطعتين من الستارة بلون اللؤلؤ ، ودائمًا هُنا اقرأ اقرأ اقرأ..
لا أرتدي مبذل أحمر ولا خفين فرائيين مثلك ولا أجمع المخدات خلف ظهري (حيث أنه ليس لدي سوا واحدة..سأشتري أُخريات مع بطانية جميلة للقراءة ذات يوم)..
بل أنني اليوم أرتدي بنطال أسود يميل إلى الرمادي، وقميص صيفي ذا لون أصفر باهت تتسلقه أغصان خضراء اللون، ترتمي عليها بخفة زهور وردية اللون، تقف فوقها فراشات باللون الأحمر القاني مع الزهري..وأكتب لكِ مستمتعة.
أتمنى حقًا لو أمشي معك في أحد يومين الأسبوع حينما تُقدم لكم الكلية المثلجات، ثم نجلس لاحتساء شاي ما بعد الظهيرة، وأتحدث معكِ عن كُل شيء، ونضحك سويًا فأنت إحدى النوادر التي حين اقرأ لها أضحك، وأصبح خفيفة!
هل حينها سأصبح قريبة منك مثل سالي ماكبرايد؟ أعتقد بأني سأتفوق على جوليا بندلتون بالطبع، أما سالي اممم لا أظن!
ولكن أقبلني كصديقة عابرة.
أُحب في كتابتك لعزيزك صاحب الظل الطويل..تقديم الأخبار المُبهجة على السيئة، أنه لمن اللطف الحنو على بعضنا حتى في الاهتمام بصناعة مزاج طيب وسعيد قبل الشروع في قول الأخبار السيئة..هل تعتقدين ذلك؟
أصبح كسر الخاطر أمرًا هينًا جدًا، والاهتمام بمداراة مزاج من نُحب مضيعة للوقت، أكره هذه الأفكار التي تنم عن أنانية مبالغة، أُسميها قسوة التفاصيل الصُغرى في العلاقات..
التفاصيل؟ حسنًا إني أهتم بشدة في التفاصيل، أكره انتظار عظام الأمور لإشهار حقيقة مشاعري تجاه أحدهم أو حتى العكس، لا أنتظر ممن يُحبني تقديم فعل كبير حتى أُصدق مشاعره وإنما تكفيني التفاصيل.. مثل تذكر شيء ما أُحبه، أو أي تفصيلة صُغرى تنم عن اهتمام..
(تمامًا مثلكا فعل جيمي مكبرايد حينما أرسل لك لوحة وتذكرك بها.. إنه لمن اللطف فعل ذلك)
التفاصيل ليست في العلاقات فقط، وإنما في الأشياء، والجمال والطبيعة وكُل شيء .. أنظر لزاوية ما بتفاصيلها فأرى جمالًا بديعًا، لا أحتاج قطع أميال لأرى مشهد خلاب، تكفيني التفاصيل لأرى الجمال.
**
في رسالة لكِ لعزيزك كتبتِ ياجودي:” يمكن لأي أحد أن يقاوم أزمة ويواجه مأساة ساحقة بشجاعة، لكن أن تواجه متاعب النهار الرهيبة بضحكة، فذلك يتطلب شجاعة كما أؤمن فعلًا”
وتمنيتي بعدها أن تُنمي الروح الرياضية بداخلك، بالأخص حين تري جوليا وهي ترتدي الجوارب الحريرية!
بصدق ذلك الكلام بقي يتحرك في عقلي كثيرًا، وتعبت حقًا في مواجهة متاعب النهار، أنه لمن الصعب الاستلقاء على السرير في نهاية اليوم بروح خفيفة، دون أن نرمي أجسادنا على السرير بثقل وتعب وانطفاء، بغض النظر عن الروح الرياضية..لدي مشكلة في مواجهة متاعب النهار بخفة الطير وبشجاعة الأسد..
تعبت في خلق هاتين الصفتين كثيرًا، ركضت حتى نلتها، لا أقول بأنني نلتها تمامًا بل تقريبًا، كانت مفاتيح الصفتين كالآتي:
*تقليل توقعات الإنجاز أو توقعات مدى الروعة في يومي.
*قبل النوم أُبعد أي أفكار سلبية بشأن يوم غدٍ.
*إستراق بعض أوقات يومي في فعل ما أُحب، أو فعل اللاشيء مثل الجلوس على الأريكة والتأمل من خلال النافذة.
*تعلمت بعض حركات اليوغا التي تُفعل في السرير حين الاستيقاظ من النوم.
بسبب هذا قل تذمري بشكل ملحوظ، شعرت ببعض الراحة، وألحظ تحسنًا في مزاجي، أُشير إلى أني شخص مزاجي جدًا جدًا جدًا.
حسنًا عليّ التوقف عن الكتابة قليلًا، لديّ نداء استغاثة من أختي الصُغرى تُعد فطورها وهو عبارة عن طبق من البيض.. نعم البيض!
هل سمعتي بمعاناة الأخوات الكبار؟ حسنًا هذه واحدة منها..
تُكرر أُختي النداء.. سأذهب!
حين وصلت وجدت الوضع هكذا!
صحيح أننا شرقيات ولكن لا نُكثر البُهار على البيض مثل هذا، ولكنه خطأ..حمدًا لله أن الطعم لا يصل إليك، وإلا تذوقتي شيئًا أشد ملوحة من البحر الميت!
ملاحظة: أنا لا أُحب البيض بهذه الطريقة ابدًا!
**
من الأشياء التي علي الإشارة بها وهي حديثك عن الأوصياء، وحنقك الشديد عليهم.. أُحس بك.
دائمًا ما أُفكر كيف يكون العطاء مبتذلًا عند أُناس مثل هؤلاء يستكثرونه؟
أن تُعطي يعني أن تنسى هبتك، قد تجدها في طريقك على شكل هبات أُخرى، لكن لا تنظر بشغف تجاه المُقابل ابدًا.. تكفيك ابتسامة خافتة أو حتى لا شيء.
أن تُعطي يعني أن لا تستكثر، لا تغتر، لا تتكبر.
أن تُعطي يعني أن تحاول التواري عن الأنظار، لأجل منع خاطر المُعطى من الكسر.
أمقت من يلتفتون لرؤية ما فعلت أُعطياتهم بالناس.
العطاء أمر سامي جدًا، يُشبه وهب روح ضاحكة لشخص أنهكته الدموع.
**
“أنا لا أتفق مع النظرية القائلة إن الحظ العاثر والحزن وخيبة الأمل، تنشيء قوة أخلاقية، فالأشخاص السعداء هم أولئك الذين يفورون في المحبة.. لست أقتنع بمبغضي البشر”
—جودي أبوت
قبل أكثر من أسبوع كان يوم ميلادي.. (لا مانع من استقبال تهنئتك، فذلك فرح غامر لقلبي) ،أكثر شيء تمنيته لعامي الجديد وقد كتبت هذه الأمنية هو: أن يحفظ الله لقلبي طاقة الحُب..
الحُب لكل شيء ولأي أحد، تلك طاقة عُظمى، تحفظ سكينة قلبي واطمئنانه ودفئه، تدفعني لشغفي، تمد الحنان في علاقاتي، وتحرك دماء قدميّ لأركض خلف أحلامي، حين أنشر تلك الطاقة أشعر بسلام حقيقي في روحي.
حقيقةً لا أستطيع تسكين فكرتي تجاه الحُب على بيوت الأسطر وعزائي في هذا ما قاله فيودور دوستويفسكي :”إذًا أنت آيضًا يعذبك في بعض الأحيان أن فكرك لا تسعه قوالب الألفاظ! ياصديقي، هذا العذاب لم يوهب إلا لصفوة مختارة من الناس”
وأرجو أن أكون منهم يا جودي أولئك الصفوة.
ولكن كان الحُب شيئًا من ضمن الأشياء التي تمنيتها بعُمق في عامي القادم، كنتُ أُريد تمامًا مثلما أراد الطيب صالح في موسم الهجرة إلى الشمال حين قال :” إنني أُريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة.
أُري أن أعطي بسخاء، أُريد أن يفيض الحُب من قلبي فينبع ويثمر.
ثمة آفـاق كثيرة لابد أن تُزار، ثمة ثمار يجب أن تُقطف، كتب كثيرة تُقرأ، وصفحات بيضاء في سجل العُمر.. سأكتب فيها جُملًا واضحة بخط جريء”
**
حين قمت بزيارة مزرعة لوك ويلو.. أُصبت بالغبطة، أُحب المزارع والطبيعة جدًا!
ونفسي تهفو لها، أحلم بالجلوس تحت أشجار عملاقة واقرأ كتابًا، أو أحتسي كوب قهوة أو فنجان شاي.. امم يا لدهشة الخيال!
-الخيال.. لقد تحدثتِ عن هذا في أحد رسائلك لصاحب الظل الطويل، وكنت أؤمن بكل حرف قُلتيه.. سأرفق كلامك هُنا.
وباستثناء ما تحدثتِ به، أُحس بأن الخيال قوة نستريح إليها من احتدام جدية الواقع، لا أن نحلق بها بعيدًا بل لنروح بها عن أنفسنا، ولتدفعنا نحو أحلامنا حين نتخيل أنفسنا قد وصلنا إليها.
آيضًا بالنسبة للأطفال، من حقهم على ذويهم أن لا يسلبوا الخيال منهم، فالخيال والتخيل ترقق قلب الإنسان، وتعزز انسانيته تجاه الآخرين وحتى نفسه-
كان علي أن أكون هناك في المزرعة كما تخيلت، أقوم بمغامرتي اللذيذة هُناك..ولكنه يظل حلم سأسعى لتحقيقه ذات يوم.. من يدري.
-هُنا تمنيت لو أن بأستطاعتي الرسم مثلك، لرسمت شكلي في المزرعة حتى تتخيلي كيف سأبدو!، ولكن سأرتكي لقوة خيالك-
**
قرأت في رسائلك سريّن تختصان بخَلق السعادة وكتبتها في دفتري الخاص، ورددتها كثيرًا، رغم إيماني الشديد بها قبل أن اقرأ كلامك، ولكن لأن لكلامك حظوة في نفسي لا أُخفيها، كان وقعها على النفس أشد، وددت لو بأني همست بهذي السرين إلى كل الناس وأحبابي خصوصًا..
—الأول حين قُلتِ:
” لقد اكتشفت السر الحقيقي للسعادك ياعزيزي، ويمكن هذا في أن تعيش اللحظة. وألا تتحسر على الماضي على الدوام، أو تفكر في المستقبل، بل أن تحصل على أكبر قدر من هذه اللحظة”
عيش اللحظة بتفاصيلها، يدعوني للتأني والروية، فأنا أكره العيش على عجل، اللحظة وإن كانت صغيرة بسيطة فإن غدت فلا تعود..صدقتِ ياعزيزتي.
—الثاني بعد أن أثنيتي على حديث قاله روبرت لويس ستيفنسون -صاحب رواية جزيرة الكنز-:
“إنه مُحق، كما تعرف فالعالم مفعم بالسعادة، ويمكنك اكتشاف الكثير منها، إن كنت راغبًا في استقبال ذاك الذي يُصادفك في طريقك، إن السر يكمن في المرونة!”
فعلًا يكمن في المرونة، فعليك أن ترتدي حذاء سميكًا حين تواجه الشوك في طريقك، وعليك أن تسبح حينما تواجه نهرًا، وفي حال أظلمت الدنيا عليك..يجب أن تُشعل نارك وتُضيء طريقك بنفسك.
كتابة رسالة إليكِ، شيء رقيق ولطيف ويبعث الدفء.. أرجو أني لم أُطل عليك ياعزيزتي..
المخلصة لك مع مودتها،
رهف.
تمت في يوم مُشمس كالعادة، بعد يوم ميلادي بثمانية أيام..
تحديدًا في يوم الأثنين:
العشرين من ذي الحجة| ١٤٤١هـ
العاشر من أوغست | ٢٠٢٠ م
١٢:٥١ م
البلاغة والجمال والعمق والكلمات الجميلة المبهجة والأحاسيس الصادقة ، كتابه جميلة جداً استمتعت بكل حرف وكلمة وسطر وانا أقرأه تمنيت لو انه لم ينتهي كان كالإدمان أتمنى أشوف كتابات لك كثيرة ❤️❤️❤️
إعجابLiked by 2 people
شُكرًا دوزي لردك اللطيف🌿
كان له أثره على قلبي جدًا.. ممتنة لقرائتك، ممتنة امتنان عظيم لردك♥️
إعجابإعجاب