ديسمبر : رئتين ممتلئة بألم وأمل🌿

ديسمبر| نفس عميق.

كان استعدادًا ذا إيقاع هادئ، كان ترحيبًا دافئًا، كنت كـ جُندي خاض المعارك كُلها وهو الآن واقف أمام باب بيته مُلطخ الوجه، مُضمّد الذراع، يبتسم بإنهاك وينتظر أن يُفتح الباب حتى يضم عائلته بيديه، بعد أن أضناه الشوق لهم، ويفكر كيف يعوّض غيابه عنهم، بصنع ذكريات سعيدة معهم.. هذا كان حالي لإستقبال ٢٠٢١.

اقتنيت العديد من الأشياء كترحيب حار مني، ولأن الإنسان بطبيعته يُحب الصفحات الجديدة البيضاء، أردتها صفحة بيضاء أنا رسامتُها وأعبث بالألوان ثم أُخرجها كـ فن جديد ليس بالضرورة جديد في ساحات الناس، وإنما يكفي أن يكون جديدًا على ساحتي.

يحضرني قول الطيب الصالح الذي كتبته مرةً في مدونتي وأعيد كتابته هُنا: “‏إنني أريد أن آخذ حقي من الحياة عنوة. أُريد أن أُعطي بسخاء، أُريد أن يفيض الحب من قلبي فيُنبع ويثمر. ثمَّة آفاقُ كثيرة لابد أن تُزار، ثمة ثِمار يجب أن تُقطَف، كُتب كثيرة تُقرأ، وصفحاتٌ بيضاء في سجل العمر، سأكتب فيها جملاً واضحةً بخط جريء”

كان هذا أوّل عنوان بخط عريض في صفحة استقبالي للعام الجديد، ثم قررت أن يكون ديسمبر ذا طعم مختلف، نهاية هادئة بعد عام كامل من الصخب، لم يكن صخبًا صادرًا مني ولكن هذا الصخب الذي عصف بنا في العالم، كان مُزعجًا كطنين ذُبابة ليس لثواني محدودة وإنما لأشهر، وأحب أن أنوه أنه ليس عامًا للنسيان، بالنسبة لي هناك الكثير من اللحظات التي انتظرتها لوقت طويل جدًا وحدثت بسعادة غامرة هادئة أُشبهها بخرير جدول الماء بين كثبان من رمال الصحراء.. فالحمدلله.

في الأول من ديسمبر اتفقت مع صديقة عزيزة على قلبي اتفاقًا بسيطًا جدًا، لكن عميقًا بذاتي، اتفقنا على السعي الحثيث والمحاولات الصادقة لرؤية أحداث الأيام العادية بنظرة مختلفة بامتنان ربما، المهم أن نجعل هذا الشهر “مسك الختام”، فكانت مهمتي أن أرتقب حدثًا عابرًا أرصده في قائمة امتناني، وأن أضع رأسي على وسادتي مستذكرة هذا الحدث وابتسم بوداعة هذا كُل شيء، أعترف بأنه كان اتفاقًا سعيدًا امتن له كثيرًا وكان فارقًا.. نعم فارقًا، انتشلني من عواصف ضبابية كادت أن تفتك بي أيامًا كُثر، لولا الله ثم عطف إتفاقُنا لما خمدت..لذا أنا ممتنة لرفيقتي دومًا.

،

اتخذت من بعض الأيّام القليلة عُزلة، قطعت التويتر كونه يأخذ الكثير من وقتي، وبعض التطبيقات الاُخرى.. لأعترف كان حذفي للتويتر شيئًا متسرعًا لكن أهوّن على نفسي بأني سخرت جهدي للتركيز على بعض الأشياء التي وددت أن أخذها كـ منهج لي في العام الجديد، رغم أني حينما حذفته لم أُقرر أي شيء وإنما كان قرارًا تعسُفيًا دون سبب، ثم قررت أن اتسلى فتابعت مسلسلًا قديمًا ذا طابع يملؤه الدفء، سمعت الكثير من مقاطع البودكاست وأنا أمشي، كان أفضلها هو بودكاست جَولان تحديدًا حلقة عُمر الصغيّر، وحلقة يزيد اليوسف، وآيضًا بودكاست بعوضة لسارة بُقنه، أخذني البودكاست لعوالم مختلفة كانت أُفقًا جديدًا أحببته، ألتقطت الكثير من الصور للغروب اعتبرها لوحاتي رغم تصويري البسيط المتواضع، قرأت بعض القصائد، وأيقنت أن القصائد وكُل الأدب هي تهويدة روحي في كُل حين، مع كُل شعور يعصف بي، إن كنت ضاحكة وفرحة مُحبة أو محبوبة أو حزينة ووحيدة.. وفي كُل شعور.

استوقفني بيت لمحمد حسن فقي: “هذا الفؤادُ المنزوي راغماً..يَنْشُدُ في العُزْلَةِ بَعْضَ الضِّماد” فكأنه كان ينظر لي حينها.

(أحد صوري -لوحاتي- للغروب بعد ساعات من المشي وتأمل السماء)

وقرأت جزء من كتاب “ماذا علمتني الحياة” لجلال أمين سيرة ذاتية خصبة جدًا، استوقفتني فيها الكثير من المواضع لكن ما وقف بي طويلًا كانت قصة قصيرة ذكرها عن صديق له شديد البخل، يُحب المال حُبًا جنونيًا، سافر لأمريكا في شبابه ظنًا منه أنه سيجني مالًا أكثر، و عاد بعد أن شاخ، وكان معه القليل من المال الذي يستره، يقول عنه جلال أمين: “غرامه بالمال كان قويًا لدرجة أن المبلغ التافه كان يبدو في عينيه كبيرًا للغاية، كان حبه له سببًا في عجزه عن تحقيق قدر كبير منه، فالدنيا عاملته من الناحية المادية بنفس المعاملة التي عاملها بها”

فأسقطت تفكير صديقه على الحياة والأحلام بوجه خصوص، من يطلب حلمًا صغيرًا سيسعى له بجهد ضئيل وفي النهاية سيحقق إنجازات صغيرة، لذا قال حبيبنا “إذا سألتم الله، فسألوه الفردوس الأعلى”… لما نُحجّم قدرنا على تحقيق حُلم ما؟ أو لما نحجّم أحلامنا في الأصل؟

الحلم حق مشروع مهما كبر، والسعي طريق مفتوح، والوصول ليس مستحيل أو يحتاج إنسان خارق وإنما يحتاج جُهد بإتقان، وحُب بوفاء، وإيمان بالذات.

حينما فكرت بهذا تقافزت إليّ أحلامي كأطفال صغارًا يقفزون للظفر بحلوى في يدي، وكأن تلك الحلوى طريقهم لواقعي..كان خيالًا لذيذًا جميلًا، لما أُشبه الأحلام بالأطفال؟ لا أدري ولكن جميعهم مصدر سرور وبهجة.

،

وآيضًا كتبت في هذا الشهر حديثًا طويلًا عنونته بـ “نص لن ينشر آبدًا، لأجلي!” كتبت فيه أشياء كُثر، لكن كان الناتج المُثمر عنه هو مصالحتي مع نفسي، حيث أني أبديت اعتراضًا عن ما تقوم به من بعض الأفعال، والحمدلله مرةً أفهمتها أنها تحتاج لتصحيح ومرةً أدركت بأني فهمتُ فعلها ذاك خطأ، وأنها كانت صواب فاستدركت مني آسفي ورضينا، لم يكن مهمًا كـ صُلح الحديبية، ولكن صُلح بسيط أعاد رضاي عن كثير من الأشياء والأفعال والاخطاء، وايضًا أضاف إلي تغيير حيث أنه قادني لقرارات بسيطة لكن أظن أنها فصلًا جديدًا في رهف، كنت قبلها قرأت إجابة إحداهن عن سؤال “كيف يتعايش الانسان مع خطاءه؟” فردت تلك برد ألهمني لهذا الصُلح:” من جهه شعور الذنب يذكرنا أننا صالحين وفيه نور بقلوبنا، ومن جهه نبعد عن هذا الخطأ مو عشان أحد إلا أنفسنا”.

حتى أني تصالحت بما كنت أسميه “مرحلة الانطفاء”، مهما طالت أو قصرت فلا بأس ولا داعي للقلق، لماذا لا بأس تحديدًا؟ لأنه وبكل عتمة أصابتني أدركت مواضع نجومي، نجومي التي أسميتها خارطتي تجاه نفسي وأحلامي، وتجاه الضوء.. لذا لا بأس من العتمة بل أنها أروع ما تكون للظفر بسماء متلألئة، ثم كانت هذه العتمة هربًا من كُل الدنيا والرجوع إليّ.. هل كان هربًا اجباريًا أم اختياريًا؟ بين هذا وذاك، ولكنه حينما تفيض قُلة أحزاني على عتمتي، استدركها بأنها سبيلٌ لمعرفة ذاتي، والعودة إليها.. وفي ذلك استذكر الكثير من الأبيات، من المضحك أني أُهديها لنفسي LoL:

“سامحته.. وسألت عن اخباره

وبكيت ساعاتٍ على كتفيه

كم قلت أني غير عائدة له

ورجعت.. وما أحلى الرجوع إليه!”

وأظن ظنًا يوصِل للتأكيد إن مضيت به أكثر، أن الرجوع للنفس من أحلى الطُرق، وإن كان شاقًا وحزينًا ومُلبدًا باللحظات المبكية والعُقد، ولكن الوصول سعيد جدًا وإن لم أبتغي لذته للآن ولكن قطع المسافات وحدها إنجاز مُبهر يستحق التصفيق، وما غايتي في هذا الطريق إلا لقاء نفسي كما قال عبدالله السعيدي:

“أُريد الأمان وبعض الهدوء

وسُجادة تحت ظِلٍّ وفَيّْ

وكأسًا من الشّعر أحْسوه كي لا

يذوب الكلامُ في شفتيّ

أُريد لقائي بنفسي قليلًا

فإني أضعت الطريق إليّ”

،

كان هذا التصميم الجميل في حساب adabpic على الانستجرام، راعيًا لأحد أيامي في ديسمبر، حيث أني لبست نظارة -تحويل كل الأشياء لذكريات-.. أعترف أنها كانت قاتمة احيانًا كثيرة، فبكيت حينما أتخيل أن مصير شيء أُحبه للزوال وغمد الذكرى، وآيضًا سعدت كثيرًا حينما تخيلت أن كُل ضيق يختلج الصدر زائل.. ولكن السر بالتقدير هو الذي بين هذا وذاك يضمّد الأمر، أن نقدّر الفرحة وإن صغرت، وأن نبسّط الحزن وإن عظم.

والذكريات ليست بالضرورة شيء حزين، وإنما هي سعادات صُغرى تحضر إلينا كلما بللنا حُزن، فتأتي على شكل صورة، أو رسالة، أو صوت، أو رائحة، أو مكان، أو كوب وكتاب وأي شيء.. فتلوّن حاضرنا وتضمدنا، وتعمّق صلتنا بالأشياء والأشخاص والأماكن، فكُل الأشخاص غُرباء إن لم تجمعنا بهم حميمية الذكرى، وكُل الأشياء جمادات إن لم تُحييها فينا الذكرى، وكُل الأماكن مُتشابهة إن لم تُميّزها الذكرى.

قُصاصة (١):

في ليلة السابع والعشرين من ديسمبر، انهمر المطر، انهمارًا شديدًا عذبًا مؤنسًا، يُضمد القلب ويزيح عن الخاطر أيًا من شوائب الكدر، وغير أنه أسكن في قلبي ترداد قصيدة “تغريبة المطر” لشاعرتي المفضلة روضة الحاج.. كان هذا اليوم يُصادف الذكرى الرابعة للقاء الأول مع أعز الرفاق.. فأضاف لقلبي ربيعــًا مختلفًا.. لما أقول ربيع وأنا أرتدي قطعتين ووشاح من شدة البرد، وأنفي مُحمّر، وصوتي مبحوح وقد تحول حرف الميم في نطقي لشيء لا يُشبه الباء ولا أي حرف من حروف الأبجدية؟

أُحس بأن ليالي المطر، وليالي الذكريات الغالية.. لا تُشبه في القلب إلا الربيع، ينهمر مطرها على كُل المساحات الجدباء فينا، فلا نعرف حينها لا شتاء ولا برد، يُصيّرها المطر ربيعًـا ضاحكًـا مهما ضرب الجدب أعماقنا، كُل الدُنيا بالمطر تصير ربيعًا لا أهمية لتوقيت الفصول حينه، مثلما أنا مع صاحبي ضماد قلبي!

اقتنيت دفتر مذكرات جديد، تكسوه خريطة العالم، حيث أني مولعة بالخرائط تشهد على ذلك زياراتي المتكررة اليومية لتطبيق قوقل ماب، ووجود علامات وضعتها في كل بقاع الكرة الارضية وكتبت عن ذلك تدوينة قديمة لم أنشرها هُنا، ربما أفعل يومًا ما وأحرر قيدها من قائمة المسودات.

متشجعة لكتابة المذكرات بشكل يومي مستمر، كنت دائمًا مولعة بالمذكرات منذ صغري، تحديدًا حينما أُشاهد مسلسل ستروبري شورت كيك وأنا في العاشرة من عُمري وهي تحمل دفتر الفراولة الوردي، وتكتب يومياتها باستمتاع مذهل، كانت تلك الفقرة في كل حلقة تحوز على انبهاري الشديد!

قصاصة (٢):

على ذكر الخرائط وولع السفر والهيام به..في أربع عصريات من عصريّات ديسمبر، شاهدت فيلم من أستديو جيبلي.. لما ابطأت في انهائه؟ ببساطة وقعت في غرامه!

يحكي عن فتاة في السابع والعشرين من عُمرها، كانت تتوق توقًا شديدًا للزيارة الريف والمزارع في صغرها.. وأرادت تحقيق أمنيتها حينما كبرت، وفي طريقها لتجربة حياة الريف استعادة ذكريات طفولتها، فكان الفيلم مزيج مذهل بين ذكريات الطفولة البريئة وأيامها في الريف وقطف زهرة القرطم.. عميق جدًا وآسر!

هذا الفيلم بكل تفاصيله الصغيرة يُشبه كُل الأشياء التي أُحب، أيقظ لي حلمًا قديمًا لزيارة اليابان الكوكب المختلف على لسان أحمد الشقيري.. طُرقاتها وأزقتها، زهور كرزها، وجبالها وريفها، وأسلوب المعيشة بها، وبساطتها وتطورها، مأكولاتها وكل شيء بها.. ذهبت مُسرعة للبحث عن رواية تضم هذا الحشد من التفاصيل الآسره عن اليابان، وجدت رواية اسمها “ملذات طوكيو” بها حميمية دافئة للغاية، تقبع معظم أحداثها في متجر فطائر الدوراياكي، تحتاج تدوينة أُخرى منفصلة!

،

أرى ضجة كتابة الأهداف تثور في نهاية/بداية كُل عام، أعترف أني كنت كذلك.. أكتب قائمة من الأهداف، فأحاول الركض لتحقيقها طوال العام وإن فترت قدماي أو زلت، أشعلت عليها نيران الضمير، ولدي ضمير يا له من ضمير.. يحرق الأخضر واليابس!

لذا قررت في ٢٠٢١ أن أجعله عام الخطوات/ العادات الصغيرة، تلك التي توصلني لحُلم ما بخطوات ثابتة مستمرة فلا أهوي بعد قفزة أو أتعب فتطول استراحتي، كتبت أحلام هذا العام ثم قسمتها لخطوات بسيطة، قليل مستمر.. المهم عندي لا انقطاع!

ثم رغبت بشدة في خلق عادات صُغرى ذات تأثير ممتد، يكفيني عام لتحقيقها وأرى أثرها عُمرًا كاملًا.. إذن هو بالنسبة لي “عام المشي” لا “الركض”.

قُصاصة (٣):

في حال وددت إخماد حريق ضميرك، انفث عليه بهذا البيت قد تسلم:

‏ “ما فاتَ مات، وفي الأيامِ متسعٌ

‏وفسحةُ الوقتِ للساعين لم تزَلُ”

ثم تصالح مع خططك وأهدافك كن واقعيًا واضحًا وصادقًا، حتى لا تتطاير نفاثاتك وتظمئ LOL.

،

على ذكر التصالح، في نص يطبطب على الكتف كتبته الرائعة شروق القويعي “على عتبة توديع هذا العام” بنقاط فيّاضة تجفف سيل سخط عام ٢٠٢٠ الذي أجتاح الدُنيا كُلها، في نهاية كلامها كتبت: “أن الحياة ستمضي على كُل حال”.. مهما كانت الأيام غاية في البؤس أو غاية في البهجة، ستمضي!

وأعتقد حرفيًا أن عام ٢٠٢٠ كان مثل رئتين ممتلئة إحداها بالألم والأخرى بالأمل، لكن لا بأس ها هي تمضي بكل مافيها، وبملء الرئتين من أمل نحتفي بعام جديد، وندعو الله لأحلام أكثر رحابة، وبأيام ملؤها الحُب، والطمأنينة والرضا.. والعافية لنا ولكل الأحباب!

بقي ثلاثة أيام على خط النهاية – نفس عميق –
اصنعوا البهجة، استعدوا بحُب، انفضوا غبار الماضي، تصالحوا مع الأيام لأجلكم.

دُمتم بخير.

تمت،
٢٨ ديسمبر| ٢٠٢٠م
١٣ جماد الأول|١٤٤٢هـ

٥:١٠ م

6 رأي حول “ديسمبر : رئتين ممتلئة بألم وأمل🌿

  1. الصور يا رَهف مُلهِمة و رائعة جدًا، و بهذه المناسبة أسألك: هل يمكنني سرقة منظر الغروب من النافذة؟ أظنني أحتاج تأملها لوقت طويل…
    مثل المطر أنتِ، مُبهِجة، و أنتِ رئة الأمل💙
    أكتبي لنا دائمًا رجاءً

    Liked by 1 person

    1. اسماء يا اسماء:”
      تعليقك صنع سرب طيور سعيد بين أضلعي!
      يحتار المرء في كتابة رد امتنان على تعليقك اللطيف، ممتنة♥️
      -أرجوك أن تحتفظي بالصورة كذكرى، سعيدة ومزهوة هي بتأملك-

      Liked by 1 person

  2. تدوينة رائعة جدا ❤
    أحببت كمية السعادة التي تنشرينها
    أتفق معك في فيلم أستوديو جيبلي فعلا رائع وساحر، أعدت مشاهدته لأسبوع كامل
    كل الإحترام والتوفيق 🌷❤

    Liked by 1 person

أضف تعليق