أربع قباب وبُرج.

الخامس من يناير| ” لما لا؟ ”

من التي تلتقط الصور التي تحتاج لالتقاط بشكل سريع؟
أناااااا..
في جولة حول المدينة بأجواء سعيدة من أول أيام العام الجديد، لفت انتباهي بيت على الشارع الرئيسي تعلو أركانه أربع قباب كتلك التي في تاج محل، ويتوسط المبنى بُرج إيفل صغير!
أخذت لقطة سريعة للمبنى والسيارة تمشي بسرعة، سُعدت لأني التقطتها بهذه السرعة، وبدقة لا بأس بها، نشرتها على الانستجرام تحت دهشة غامرة مني كان تعليقي عليها “لما لا ؟”
ردوا علي بعضًا من أصدقاء الانستجرام، صديقة قالت “أحلام العصر” وآخر قال لي “أش يحس فيه” والبعض يشيد بجمال اللقطة، صديقة أُخرى نبهتني بأنه تعلو قمة برج إيفل -سيفين ونخلة- .. لم أنتبه لها لولا تنبيهها !
لكن بعد تأمل فعلًا ” لما لا؟ ”
لا أقصد أن نبني بُرج خليفة في حارة من حواري مدينتي، ولا أن أضع ساعة بيغ بن فوق بيتي، ولا حتى أن أسرق تمثال الحرية وأضعه بدلًا لإحدى رموز دوارات المدينة، وأنزع الشعلة وأسقط مكانها فنجان قهوة!
لكن ما أقصده أنه إن رغبت في شيء مجنون ” لما لا؟ ” ، ولما أُفكر في رأي الناس وتعجبهم، أو أتحرك بناء على رأيهم، وأتدمر إن فكرت بضحكهم، إن كان ما رغبت به شيء مجنونًا فلا يهمني ضحكهم أو حتى إعجابهم.. وأظن الإنسان العربيّ على وجه الخصوص، رُبيّ على أخذ كلام الناس كسيف قاطع، فتشهق الأم آحيانًا: “اش يقولون علينا الناس؟” ، كذلك الأب والإخوة والأخوات كلٌ على حدة بأشكال كثيرة لا حصر لها، من قمع رغبات الآخر أو إجباره على فعل ما لا يُحب “لإرضاء الناس أو لتجنب سخطهم”، فكيف يفرّ العربيّ من شيء لم يُغرس فيه وحسب وإنما غُمّس فيه!
لأعترف في فترة من نهايات طفولتي وبداية مراهقتي، كان كلام الناس هو دافعي الأوحد، إن رضوا رضيت، وإن أثنوا فخرت بنفسي، وإن غضبوا تكدرت، كانوا مقياسي تجاه رضاي وغضبي عن ذاتي، حتى آمنت أن الركض المستمر خلف أهوائهم يُضيع وقتي ويُتعبني، ثم هناك الكثير من الأشياء التي أُحب أن أفعلها، والكثير من اللحظات التي تُسعدني إن فعلتها، والكثير من الأحلام التي تخصني كـ رهف، فـ “لما لا؟” لما لا أفعلها لأجلي أنا؟
فكيف نقبل تمييع أنفسنا وإذابتها لتُشبه آراء الآخرين عنا؟
أيامنا لنا، نعيشها نحن ونكابد كُل عناء بها، لا أحد يعرف عُمق جراحها، أو الخطوات الواهنة المُتعبة حينًا أو المتعثرة حينًا أُخرى خلف كُل إنجاز فعلناه؟ لا ليست الإنجازات بصورة الختام، بل بالخطوات التي أوصلتنا للختام.
كُل هذا العناء لا ينبغي أن يُستتفه أو يُستصغر لأن فردًا واحدًا لاكه بلسانه ولم يُعجبه فقذفه، أو لنقل محيطًا كثيرًا -ليس فردًا وحسب- لم يُعجبه.. لا يهم.
آحيانًا أرى الكثيير من الناس يُحجمون عن فعل جميل من أجل شخص عابه، أو يقدمون على فعل وبداخلهم يعترك المضض، لمجرد حث أحدهم على فعله.. هناك تفاصيل صغيرة، كلمات صُغرى، أحداث كثيرة تؤثر على قراراتهم منبعها ليس هم.. بل الآخرين، وهذا يؤلمني بصدق.
في إسترجاع صغير حين إقدامي على كُل فعل وقولي لكل كلمة، اسأل نفسي .. هل لأجل رغبتك الخالصة في فعله/قوله يارهف أم لأجل شخص آخر وبداخلك عدم رضا؟
إن كانت الأولى أقدمت وإن كانت الإجابة الثانية أحجمت، فيرتاح داخلي لهذا السؤال وإن ندمت لحظتها، إلا أني سُرعان ما أسترجع رضاي، لأني اخترتُ ما اخترت دون تأثير خارجي من أحدهم.. أحس بعدها بالحُرية و أؤمن أنها أحد أشكالها.

“هل أنت بطل قصتك؟”
كُل حياتنا عبارة عن قصة، المفترض أن نكون كاتِبيها، وأبطالها، لا أن يكتبها أحد غيرنا، لا أن يرويها غيرنا، لا أن نكتبها ويكون غيرنا بطلها، أي نعم نحن لسنا بمعزلٍ عن الناس، ولكنهم جُزء من كينونتنا، من هذا الإطار الذي ندعوه بـ “أنا”، ليس الإطار ومحتواه كله، وجود شخص في حياتنا قد يغيرها بالكُلية يُجملها أو يُعتمها، لكن الخيار يبقى لنا، ومجريات دنيانا تدور في فلكنا.

،

نعود لصديقنا -أبو برج إيفل- كما أسمته أختي الصغيرة، ولأني أُحب أن أتخيل القصص، تخيلته إنسان عاش زمنًا طويلًا في شظف وقِلة، هو الطفل ما قبل الأخير في أُسرة تتكون من سبعة عشر فردًا وهو السادس عشر، يجلس أمام تلفاز صغير بالكاد يُميّز ما يُشاهد، لا يُفرّق بين “دايسكي” و “كوجي” أبطال مسلسل جريندايزر إلا بنغمة الصوت، كان جزئه المفضل في يومه الرمضاني، أن يتمدد أمام التلفاز ويشاهد “فوازير رمضان” وحينما تصل الحلقة للفزورة يقف على ركبتيه وبيده قلم ودفتر، عيناه ملؤها الحماس والبهجة، ثم تتدمر الحماسة بتقطع صورة البث ويصدر التلفاز صوتًا حادًا يشرخ طبلة الأذن، فيشتاط غضبًا، ويلعن التلفاز السخيف و زوج أخته الذي جلبه لهم، مُستعرًا منه ويشبهه بـ “كاميرا الحُجاج” يقصد تلك الهدية الصغيرة التي يجلبها الحجاج لأطفالهم بعد أن ينتهوا من الحج، فينهره أكبر أخوانه..
ليقف متململًا منزعجًا ويذهب لاداء مهمته اليومية عندما تتناول الأُسرة طعام الإفطار، ألا وهي أن يفرُش الجرائد تحت الأكل، ويختار زاوية جلوسه بناء على “صورة الخبر الأجمل”، ويختار دومًا تلك التي تحتوي على معلم شهير، ويغوص في تأملاته أثناء مد يده تجاه الأكل، ويبقي عينه بين اللقمة والأخرى على الصورة، ويبني آمال وأحلام عليها، على أن يقف تحت بُرج إيفل، ويمعن النظر في بُرج بيزا المائل، محاولًا أن يعرف سبب ميله، قرأ يومًا ما خبر عن سور الصين العظيم، بأنه أطول سور في العالم، فتأخذه شهقة الدهشة بأنه أكبر من سور بيت أبو فلاح أكبر بيت في حارتهم!
كانت الجرائد نافذته للعالم، لا يثق بشيء سواها، أكثر من التلفاز حتى، حُبه الأثير، طريقة سفره الوحيدة، وهو الذي لم يبتعد عن بيته يومًا، أبعد نقطة وصلها كانت بقّالة في آخر الحارة، المتفردة بين البقالات في بيع روب زبادي الفراولة، الذي يحبه، لا يتواجد عند سواها !
ذات يوم أخبر أصغر أخواته أثناء إطلاقهم لطائرات ورقية صنعوها، بأنه سيُسافر على متن واحدة حقيقة أُخرى، ليرى بأُم عينه صورة خبر البارحة عن تاج محل ذا القباب المُذهلة، فعقله يتأرجح بين التصديق والتكذيب حينما قرأ بين الأسطر أنه “وعلى كبر حجم القصر إلا أنه بُني ليضم رُفات زوجة الملك”.. وضع خط تحت كلمة “رُفات” ليسأل عنها أخيه -موظف الحكومة- كما يُطلق عليه في حارته، أول موظف رسمي في المنطقة، ودائمًا ما يتباهى بذلك…
يأخذ أخيه الجريدة بتململ يقرأ الخبر ببطء، رافعًا حاجبيه خلف النظارة، ثم يتحدث بتعجرف الفارغ الذي يحسب نفسه مُثقفًا، مُرجع الجريدة لصاحبنا الذي هلكه الانتظار: ” رُفات يعني قبر”.. لتأخذ الدهشة شكلها من جديد على وجه صاحبنا الصغير، وكأنها سكنت إليه، أُعجبت بوجهه الحالم، مع تلفظه ببطء “كُل هذا عشاان قبر!!!”
“طيّب ليه ما نجيبها عندنا؟” تساؤل أطلقه بعد تأمل الخبر، أطلق أخيه ضحكة مستهترة لأمنيات الصغير.
ثم ومثلما نرى، أحضرها فوق بيته، بعد أن طحنته الحياة طحنًا، عمل في كُل مكان، وفي كل يوم بعد أن يُنهيه التعب، يقفذ برأسه على مخدته، ويتحول سقف الغرفة لساحة من الأحلام، فمرةً يتخيل أحداث رحلته للهند، يتخيل الطائرة، قصر تاج محل وحديقته الواسعة، يتخيل طعم صحن البرياني اللذيذ.. الذي عرفه من عامل هندي، أعاد ترميم مطبخ بيتهم، فسأله عن ألذ مأكولات الهند، هو الذي لا يعرف إلا ما تطبخ والدته من مأكولات، فأجابه بالبرياني طبق الأرز الأشهر في الهند!
ثم يقطع خيالاته، ويبدد سقف أحلامه، صوت المروحة التي تُشغلها والدته ليلًا، فينطوي على نفسه ويغط في سُباته، ويوم أثر يوم، وتعب بعد تعب، وجهد طويل أخذ منه عُمرًا، حصد ثمره وحقق كُل هذا، لا لم يُسافر لباريس لتتنعم عيناه بأضواء إيفل أو تناول البرياني أمام أسوار تاج محل وحسب، بل أحضرها عنده، فوق بيته، أربع قباب وبرُج، شاهد عيان على تحقيق حُلمه، كذكرى للعُمر، و رمزًا لكل من قيل له “لا”.. ليرد بـ “لما لا؟” !
،

ملحوظة(١): يُقال بأن الأربع قباب والبرج لهم اضاءة جميلة ليلًا، لم أراها بعد، لكن إن أُتيحت لي الفرصة لرؤيتها، سأُرفق صورتها يومًا.. ربما.
ملحوظة(٢): هذه أول قصة خيالية أكتبها هُنا في المدونة، إن كانت ركيكة وسيئة، تقبلوها ليست لأنها الأولى هُنا.. لا، لأنني أكتبها تحت تأثير أعراض كورونا من حُمى شديدة وصُداع.. فعذرًا.

٥ يناير|٢٠٢١
٢١ جُماد الأول| ١٤٤٢

٦:٢٦ م

9 رأي حول “أربع قباب وبُرج.

  1. تدوينة رائعة، ذكرتني الصورة ببيت كنت أراه دوما عندما أخرج مع عائلتي لممارسة المشي، البيت من فوق مصنوع على شكل قلعة، محاط بأربع أبراج متصلة بالبيت، والسور على السطح يشبه القلعة تماما 🤩
    قصة رائعة، عشت فيها
    الله يشفيك ويخفف عنك

    Liked by 1 person

    1. ياااه تخيلته بيت يخطف النظر وفريد بين بيوت متشابهة!
      سُعدت بقرائتك جدًا حتى السطر الأخير، امتناني لا يوصف🥺🌿
      آمين لدعوتك، ولكل دعواتك ياصديقة المدونة وصديقتي ولاء♥️

      Liked by 1 person

  2. الله عليك❤️
    المره الاولى التي وقعت عيني على هذه المدونه وهذه اول تدوينه قرأتها، واجزم انه من واسع حظي اني وجدتها❤️!
    استمتعت جدًا بالقصه ❤️❤️❤️

    Liked by 1 person

  3. يا رهف يا رهف! تدوينة صنعت يومي، كل ما أمر على مقطع أقول يا سلاااام يا سلااام، مبسوطة مبسوطة مبسوطة. ويجي مقطع ثاني ويبهرني أكثر وأحبه وأحب من كتبه، وأحب بطل القصة. أحبه وهو صغير وأحبه وهو كبير، وأحب أتخيل قصتك هي قصة حقيقية. لأن إذا في قصة جديرة أنها تكون حقيقية فأيش في واحدة أجدر من حقتك؟ من شدة إعجابي على نهاية التدوينة دمعت دموع اللي البهجة والحماس.
    تحمست أشوف انستجرامك إذا عادي تعطيني إياه. ويا سلام يا رهف، ماقدر أوقف عن إبداء إعجابي. مقطعك الأول عن “لما لا” أدعمك وأشجعك وأيوا ليش لا دائمًا وأبدًا، مؤخرًا عززت هذه الفكرة والمعنى بمقطع لسفاح الشمري وهو يقول: “إن جزت جزت لنفسي، وإن ما جزت ما جزت لنفسي والله ما شاورت أحد” ضيفي عليها معلق يسأله “طيب مين يقيّم سفاح؟” ويجيك رد سفاح ويقول: “سفاح يقيّم سفاح”. وتذكرت كمان رواية هاروكي موراكامي يقول فيها: “وإذا كانت هذه القصة هي قصتي، كما هي قصة تنغو في الوقت نفسه، فينبغي أن أكون أنا قادرة على كتابة حبكة القصة. وينبغي أن أكون قادرة على التعليق على أحداثها، بل وربما حتى إعادة كتابة بعضها. والأهم من ذلك يجب أن أكون قادرة على أن أقرِّر وجهة التحوّلات التي سوف تحدث فيها، أليس كذلك؟”
    أتمنى لك يوم رائع يا رهف، شكرًا جزيلًا لك على مقدار السعادة والدهشة اللي أخذتيني فيها اليوم.

    Liked by 1 person

    1. يياااه تعليقك صنع يومي والله🥺
      تعليقك بمثابة قطعة حلوى لذيذة جدًا لشخص ما تذوقها طوال عمره، تخيلي مقدار الدهشة ولذة السكر وجمال الحلوى يتطاير في فمه!
      ما أخفيك دهشتي أول ما شفت تعليقك عارفه ليه؟ لأنه أنتِ، ولأني عشت مع مدونتك سنوات ومع حروفها، ويظل الخميس برعاية مدونة خديجة دائمًا وللأبد وتعليق منك يعني لقلبي كثير بمثابة رهف كملي تدوين🤍🤍🤍
      انستجرامي يتشرف أكييييد هذا هو : rrof12
      سعيدة جدًا فيك وفي تعليقك، خلقتِ فراشات مبهجة تتطاير في صدري بفرح، أتمنى لك أيام سعيدة ومبهجة لك كذلك🥺♥️♥️

      Liked by 1 person

  4. أول شيء قلته: “people know that I exist???” يالله شكرًا لك ولكلامك الحلو ويا رهف دونييي وكملي بتدعسيهم كلهم مادري مين هم بس تكفه لا يوقف 💖💖💖💖💖💖

    Liked by 1 person

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s