سارقي النبيل.

يناير| مرّة أخيرة.

لا أعرف الرابط السحري بين الأفكار العجيبة الرهيبة وبين لحظات ما قبل النوم، تلك التي تقاوم النوم من أجل إكمال تفكيرك أو خيالك و رغم هذا يغلبك، حينما تستيقظ تحاول عصر عقلك لتذكر فكرة الأمس ولن تستطيع قد أبتلعها النسيان!

مرّ عليّ هذا الموقف أمس، ولكن حتى أغلبه كتبت عبارة في الملاحظات تُذكرني بهذا وهي: “دائمًا هناك آخر مرّة من أي شيء” ومن كُل شيء، كنت أفكر بعدد الأشياء التي انقضت وانتهت دون علمي بأن ما أفعله لأجلها هو مرة أخيرة.. عدد الأشياء، عدد المحادثات، الرسائل، المراحل العمرية، الأشخاص الذين ابتلعتهم الدُنيا أو الأرض رحمهم الله، وكُل شيء قابل للانتهاء، وكان انتهائه أسرع مني في ملاحقة فكرة أنها المرّة الأخيرة.

جلت نظري على ما ومن حولي، كغزالًا قفز كثيرًا دون أن ينظر للبرية من حوله، وحينما أحس الخطر.. وقف يتلفت يبحث عن رائحة الموت ويتحسسها، هناك الكثير من الأشياء ذات اختفاء سريع، إحداها عُمري وكومة الأيام التي تمضي بعيدًا في ثقب أسود مختبئ، لا أراه ولكنّه قابع تحت المنضدة، خلف مرآتي، بين أوراقي.. هناك حيث لا يُمكن أن أراه ويحيط بي.

تلك الأيام قد ماتت، وهناك يوم يدُس موتي، دون أن أميزه.. سأستيقظ للمرة الأخيرة، اتأمل النافذة وضوء الشمس، أجلس في مكاني المُعتاد في غرفة التلفاز، اقرأ كتابي، أرتمي على أريكتي.. ثم تموت روحي.

ولأن الحياة مرة واحدة، هل عيشها كمرة أخيرة يكفي لتتمتها كما نُحب؟ ظل هذا السؤال يلاحقني من الأمس، وأظن أن الإجابة نعم، أستند لبيت أبي الطيّب المتنبي حين قال:

” وإذ لم يكن من الموت بدِّ

فمن العار أن تموت جبانا”

وأعتقد أنه آيضًا يقصد وإذا لم يكن من الموت بد، فمن العار أن تحيا جبانا، وهذا الوجه الأبيض من الموت، يخلصنا من الخوف منه، أن نحيا ونحن ندرك النهاية، جميعنا موتى، فلما الخوف منه وهو مصير معلوم؟

وهذا المصير الحتمي، يدفع الإنسان للعيش، يومًا بيومه.. حينما تملكتني هذه الفكرة، بت أستيقظ ببطء، أنظر للسقف وكأنها المرة الأخيرة، هذا السقف حمل توقعاتي وآمالي، وتحمل نظراتي البلهاء له، شاهد سيل دموعي وهي تفيض وتبتلعها مخدتي.. آمتناني له.

الموت يدفعني للامتنان، لكل شيء وهذا أدهشني بصدق، دفعني للمزيد من الإنجاز، للمزيد من التمسك بلحظاتي المطمئنة فربما لن توجد غدًا، أو ربما لن يوجد غدًا حتى أعيشها.

الأيام بزاوية النظر إليها وكأنها الأخيرة، ليست بذلك السوء مطلقًا، وإنما تبدو حميمية أكثر، بصدق وبسبب هذه الزاوية تخليت عن فكرة “الأبد” وهي مثلًا أني سأظل رفيقك للأبد، وسأحبك للأبد، سأبقى بارًا بوالديّ للأبد، سأساند أختي للأبد وووووو…

هل الأبد موجود حقًا؟ هنا بهذه الدُنيا؟

هل الأبد هو سبب ضمان محبة أحدهم للآخر فيُهمل، وهذا الإهمال أبغضه ببساطة لأنه يهمش التفاصيل الصغيرة، إذ أني لا أود أن أراك حين بلوغي قمةً ما، وإنما كنت أود يداك في انكساراتي الصُغرى التي تسبق الوصول لها. أريدك اليوم، واليوم فقط.. غدًا لا أضمنه فما بالك بالأبد؟

تذكرت قصيدة نزار قباني: “أحبيني، لأسبوعٍ، لأيامٍ، لساعاتٍ.. فلست أنا الذي يهتم بالأبدِ”.

أحسست بأنه -أي الموت- سارقٌ نبيل، أعلم بأنه سيسرقني لكن لا أدري ماذا سيخطف، أعلم أنه حولي لكن لن أراه.. هل أنا أم غيري؟ هل أنا أم مني؟ وعلى حين غرّة سيموت شيء ربما شخص، ولن أُعيده، ولن يحاكم أحد هذا السارق أبدًا، وسيعود في وضح النهار أو حلكة الليل، أقلّب يدي وليس لي حيلة، وحدث ذلك قبل أشهر حينما فقدت إحدى رفيقاتي في حادث سير، كنت مقصرة جدًا في تواصلي معها، وتعبيري عن امتناني لها.. وهذا يؤلمني وباقي بداخلي كجرح غائر وعميق، ومشاعري تجاه هذه الحادثة لم أبح بها لأحد لعظمها داخلي، وهي التي حثتني للنظر بزاوية أخرى.

والآن وفي لحظات إدراكي بوجود الموت أدعو بأن يبقى شبحًا سعيدًا في عقلي ياربّ، سعيدًا؟ نعم سعيدًا، إلهام الموت يدفعني للحاق بكل تلك اللحظات المهدرة تجاهلًا له أو خوفًا منه.

دعاني الموت سارقي النبيل، للإحتفاء أكثر بالأشياء والأشخاص والمشاعر واللحظات، دعاني لأن أُغمض عيني في أول رشفة من كوب قهوتي، إحساس مُذهل حينما تسري في أعماقي، دعاني لأن أحتفي بخيوط الشمس المُلقاة على سُجّاد غُرفة والديّ، دعاني للإحتفاء بكلمات الأحباب ورسائلهم، بالدهشة الكُبرى حين دخول مكتبة صغيرة، دعاني للشعور بالحميمية حين ضم كوب شاي بين يدي الباردة، دعاني لأكتب رسالة طويلة لصديقتي وكأنها رسالة وداعٍ أخيرة، دعاني لاحتضان ابنة أخي بقوة وتقبيل يديها كما لو أنها المرة الأخيرة، وأن التقط ابتسامات أخيها الرضيع لي بفرح غامر.. ضحكة خالية من الأسنان ذكرتني بقوس المطر وهو يمطرني بلُعابه lol.

أن ألتقط صورة لأبي كأنها خارجة من آلة الزمن حيث تختلط فيه أشعة الشمس وأبي وكأنها تلميحة لشيء أوقنه “أبي هو شمسي وضيائي”، أن أُعيد تأملي لوجه الغائب القريب من قلبي أنا الذي حفظتُ تقاسيم وجهه بحُب ولكني أُعيد النظر لشيء أبعد.. لحُلم حنون، أن أصنع فطوري المفضل باحتفاء كبير، وأن أتلذذ به وكأنه أول شيء تذوقته بالدنيا، أن اقرأ كتابي بتمهل و رويّة وأتذوق الجُمل وكأنها قطع حلوى، أن أرى الغروب بحُب أكبر، وأُحادث القمر وكأنه رفيقٌ حميم. وأكثر وأكثر.

والأهم أنه دعاني لإختبار مدى إيماني وصدقه، قُربي من الله ومناجاته، أن أعبد ربي بحُب وخوف، أقام اعوجاجي وهذبني.

الموت تذكير نبيل بعيش حاضري بخفة أكثر، يدفعني لأن أعيش، هذا أكثر شيء أستطيع قوله تجاه سارقي النبيل.. أود أن يُقال كانت رحمها الله: ‏”تتقن الإحتفاء بأوقاتها ببراعة، وتمتلك القدرة على إحالة اللحظات البسيطة إلى حكايا متألقة، كانت تختلس أجمل لحظاتها من بيت شعر، أو لوحة فنية، أو حوار ممتع، أو نصّ أدبي أو حوار لقاء عذب، أو جلسة صفاء، وتحرص على رعاية عالمها الجميل بعيدا عن عوالم البؤس”، وأظن أن فكرة إختلاس الأوقات قبل انقضاض الموت عليها سبيل لتحقيق هذا.

خارج النص وداخله: فجأة بعد أن كتبت هذه التدوينة، وفي أثناء شروعي بقراءة كتاب لهاروكي موراكامي لأول مرة كتب جُملة بخط عريض غامق وأظن أنها تلويحة أُخرى لي بأن ما أُفكر به يحتمل الصواب أكبر مما أظن، يقول بها: “الموت موجود، لا بوصفه نقيضًا للحياة، بل بوصفه جزءًا منها”.

هنا كومة مُقتصة من لحظات أحتفيت بها في يناير 2021:

تمت،

الأربعاء..

السابع والعشرين من يناير|٢٠٢١م

الرابع عشر من جُماد الثاني|١٤٤٢هـ

٨:٤٦ م

رأيان حول “سارقي النبيل.

اترك رداً على حرف رهف إلغاء الرد