ذكريــات

الثالث عشر من جون| فقــد.

كانت أيامًا ماضية فانتازيّة بعض الشيء، أحداثًا قليلة لكن عميقة، أخذت أيامًا لتهدئة روحي لأجلها، فقد والدي صديقه، وفقدت صديقتي جدها.. رحمهم الله أجمعين وكُل موتانا وموتى المسلمين.
وأحداث منطوية تحت جناح هذين الحدثين، وأُخرى أشبه بسناكات ما بين الأحداث، تزيدُني تجرعًا لهذه المرارة.

من سُبل العيش الرغيد المُطمئن أن ينعم الأحباب في حيواتهم، لا أعني أيام ورديّة مُجملًا، لكن أن يكون إطار الصفاء هو الغالب على صورة أيامهم، حينما يهتز هذا الإطار، شيئًا من أماني يُغادرني بُرهة، ويُعاود المجيء حين تحتل الابتسامة محياهم من جديد.

كانت لحظة فقد والدي لصديقه دراماتيكية للحد الذي يُمثّل في الأفلام، كان يُحادثه صباحًا ليُخبره أنه ينتظره على الغداء حتى ينتهي موعد أخذه للقاح كورونا، ليخبره صديقه بـ: “لا تنتظرني أخاف أطول عليك”، فيصر والدي على لُقياه، وقبل الظهر بساعات، يُفاجئ والدي بإتصال: “لقد كنت آخر المتصلين بـ فُلان، مات إثر حادث دهس…”، لم يتحمل والدي هذه الحادثة ابدًا، كان وقعها عليه حزينًا مؤذيًا نفسيًا وصحيًا، فعلًا كان كلمة “أطول عليك” صادقة جدًا، حقيقية وعميقة في ذات الوقت، واللقاء في الجنة سيقطع هذا الطول المرير.. يا ربّ.

ظل والدي يتحدث عنه لأيام، يذكر مواقفه العديدة، التي عاشها والدي منذ واحد وأربعين عام معه، لحق صديقه بُكل أحداث عائلتنا الكبيرة، زواج والدي، مرض جدي ووفاته، أعمام والدي الذين لم أراهم، مزارع العائلة أجمعها الفانية والباقية، وكُل الأشياء والمواقف والأحداث بصورة لم أكن أدركها لولا حديث والدي الطويل عنه، تخلله كنسمة سعيدة عابرة بين عُمر والدي، والدي ذا الكلام القليل، لكنه بعد موت صديقه أسهب بشكل مُفرط في الحديث عنه، كُنت متفاجئة لم أبكي أبدًا، صلبة وأنا التي طِوال حياتي كانت الدموع قريبة مني حد أن أرمش مرتين لتهطل، حتى أجهش والدي بالبكاء، أحسست بتفتق هذا الدرع بداخلي، كأن قوة روحي مُستمدة من والدي، وانهمرت وتشظت وتساقطت مع دموعه.

أما من ناحية صديقتي، كانت تكتب لي مدى تأثرها العميق بوفاة جدها، تذكر لي ندمها بأسى عن كثير من المواقف التي لم تقصر فيها آبدًا، ولكن الفقد ألحق بها شعور التقصير.

لوهلة بت أُدرك حجم قُدرتي الضعيفة على المواساة، أنا لست آهلًا للحديث المُواسي، ولا للكلمات المُضمّدة لجراح أحد، لكن لي يدًا تُربت، ودموعًا تهطل، وشغفًا مستمرًا للاطمئنان والتفقّد، حتى عرفت بابًا صغيرًا يُساعد الفاقد في تضميد ألم فقده، ولو أنه صغيرًا جدًا لكن له من الأثر ما استعملته على نفسي وتسليت، فأظن أنها سلوى.. (العيش على بهجة الذكرى وإن رَحل أصحابها)

ما نحن إلا ذكريات باقية مُخلّدة، تلك الذكرى مؤنسة في كثير من الأوقات، إن أُخذت بزاوية الأثر لا زاوية الاشتياق المؤلم، لا يحق لي سلب اشتياق أحدهم لآخر، لكنه في مرحلة ما يُصبح هذا الاشتياق صورة لسكين حادة تقطع أي بهجة في أيامنا، فتصبح الفرحة ناقصة، والحياة أكثر آلمًا.

رحلة تدريب النفس على تذكر المفقود العزيز الراحل، في صورة سعيدًا، في ذكرى تُسلي هذا الخاطر المُشتاق، تدريب صعب، لا يجيء في يوم أو اثنين أو حتى عام، فتجدد الشوق من حين لحين ومن مناسبة وعيد ومواقف يُصعّب هذه الرحلة، لكنّ مزاحمة هذا الاشتياق بالذكريات يصنع هالة مُطمئنة تكبر مع مرور الوقت، مع الزمن، مع الدعاء بلقاء لا فناء فيه.

كنت أحث صديقتي لحشد ذكرياتها الحلوة مع جدها أمام عيونها، بحيث لا تنسى ألطف اللحظات وتظل في قلبها كسلوى، ودعاء.. لأني أمقت فكرة النسيان أو الحث عليها عند فاجعة الفقد، بل أرى التذكر وحدة هو المُنجي من صدمتها بعد رحمة الله بنا…

قالت رفيقتي: ” قربني مرض جدي منه، صرت أزوره أكثر، وكانت كُل لحظاتي وذكرياتي الأخيرة من حياته معي حنونة جدًا “، وستظل هذه الذكريات كسلوى تستمد منها القوة حين يخالجها حنين مُربك، وشوق عارم.

هذه الحوادث كانت إجابة لسؤال وجودي يطرأ بداخلي بين فترة وفترة: “من أنا في قصص الآخرين؟”

والجواب ببساطة: “ذكريات”.

إحسان صناعتها على جُدر ذاكرة الأحباب والأهل والعابرون يبقى على عاتقنا، وتعريف كلمة “صناعة” مُختلف، فربما كلمة أو موقف أو رحلة عُمر كاملة من الاثنين، يختصر بداية التعريف ويبقى باقيه خاص جدًا في ثنايا العلاقات، باختلاف قُربها.
ويبقى ذاك الشعور اللذيذ في محاولة صناعة ذكرى سعيدة تُعلق على صدر جدار أحببت صاحبه.. أتمنى لكم سعيًا سعيدًا ومحاولات لطيفة في صناعة الذكريات.

تمت في صباح يوم الأحد:

الثالث عشر من جون| ٢٠٢١ م
الثالث من ذي القعدة| ١٤٤٢هـ

٥:٥٧ ص

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s