الثاني والعشرون من جون| “وليس نبيًا ولكن.. عليه السلام”
حينما قرأت تغريدات الأغلب عن اليوم العالمي للأب، لم أتذكر مواقف حضوره بجانبي وكانت كُثر، تذّكرت فترة غيابه في كُل عيد أضحى لمدة 10 أعوام متتالية لذهابه للحج!
كان غيابه مؤرقًا، غصة في حلقي، أعدم بهجة العيد عندي، حتى بدلت يوم العيد من العاشر ذو الحجة إلى حين قدوم أبي، سرًا في نفسي.
لم أكن أُحادثه حينها، لا أكلمه إلا دقائق في يوم العيد، ليس عقابًا وإنما خشية أن أؤذي قلبه بدموعي وصوتي ذو الغصة، وعلى الطرف المقابل للأثير كان يجيء صوته هادئًا، مليء بالأمان لا زلت أتذكر مُبتدأ حديثه بـ “بنتي…”.
كنت حينها أنام احيانًا عند أُمي، أخذ مكان أبي وأضم وسادته، في غرفتها ذات الثلاث نوافذ، التي تشرف صباحًا على موج من أسراب الحمام، تشير لها أمي بأنها طيور الحج، في سرّي كنت أبعث بالرسائل والأمنيات معها لأبي، أعرف يقينًا أنها لن تصل، لكنّ شيئًا كان يطمئنني إن فعلت.
حينما استيقظ وبعكس عاداتي حينما كُنت صغيرة، أهرع لفتح التلفاز وعلى قناة بث شعائر الحج اتسمّر جالسة، أبحث عن أبي بين أكوام الرجال؛ غاضّه الطرف عن كونهم مداد من الرجال المُحرمِين بلون واحد.
استذكر شعور الشوق في عُمر الطفولة، واتفاجئ بعدم تبدد طُرق تصرفي معه، واحساسي به، وحتى ألمه وتعبه وضيقه ثم فرحه، لا زلت الشغوفة جدًا بمن أُحب، كثيرة التفقّد، أتمسك بالمشاعر، وأضمها في داخلي بكلتا يدي، فتُحدث بي زلزالًا من العواطف، ويبقى وجهي صامتًا هادئًا إلا من بعض الدموع.
في أيام العيد أدس أجمل أثوابي لاستقبال أبي، أمتنع عن لبسه يوم العيد، أخترع العيوب فيه أمام أمي حتى تعدل عن قرار أن يكون هذا الثوب هو لصُبح العيد ونختار غيره.
حينما يُغرقني الحنين أرقًا في الليل، كنت أكتب الرسائل لأبي، أحكي فيه عن وحشة منزلنا، افتقادي الدائم له، بحثي عنه في التلفاز، دعواتي له يوم عرفة، وتساؤلاتي عن أحداث يومه، حكاياتي التي كنت أكتبها في طفولتي، وحينما بت في سن المراهقة كتبت له عن أُمنياتي الصُغرى، والكتب التي قرأت فترة غيابه، وعن أول أوقات عامي الجديد؛ حيث أن تاريخ ميلادي يُصادف الثاني عشر من ذي الحجة.. ثم أُقدمها له كهدية استقبال.
في يوم من أيام غيابه، سقطت مغشيًا عليّ، إثر هبوط ضغط حاد، كنت طفلة في العاشرة من عُمري، رفضت أن أكل أي شيء انتظارًا لحين قدوم أبي؛ فتأخر عن وقت مجيئه، لم أعي إلا وأنا في المشفى، بجانبي أمي وخالي إبراهيم وأخويّ، كنت انظر بينهم لعليّ أجد وجهه بين الزحام.. ولم أجده، كانت تلك اللحظة من أولى خيباتي في الحياة.
كنت أُحب سماع كلمة “طواف الوداع”، كان ذلك مرادف لقُرب لقاء أبي، وعلى الرغم ما فيها من فُراق إلا أنها ترسم على شفاهي ابتسامة مُختلَسة، كانت هذه الكلمة تدق في قلبي ناقوس الفرح، تبدأ أُمي بمراسم الاستقبال، تطهو الطعام بطريقة لذيذة، وتبدو رائحته زكيّة، يُسرع أخي لشراء الخبز، وأطوف أنا بمبخرة العود في ارجاء المنزل، وأُبخر ثيابه وخزانته و وسادته، كان مجيئه عيدًا أنعم به.
أؤمن بأن الوقت الذي نمضيه دون شخص نُحبه، يُعرّفنا بطريقة ما على حلاوة الوقت معه، لا أتحدث هنا عن وجود هذا الحبيب بل عن الوقت وحسب، يبدو سريعًا مهرولًا خفيفًا ضاحكًا، أتخيله كطفلة نحيلة سعيدة تركض وثبًا تحاول التقاط غيمة في السماء!
حين يصل أبي، لا يجيء وحده ابدًا، يأتي حاملًا معه آمان الدنيا، وطمأنينة العالم، والسلام المنشود في الأرض، وضحكتي المفقودة.
رغم ذوبله حينها إلا أن عينيه المتعبه كانت عافيتي من كُل علّه، احيانًا كان يجيء محمومًا إثر الانفلونزا فيطلب مني أن ابتعد عنه قليلًا؛ حتى لا أُصاب بالعدوى.. وأرفض، كان هو البيت وأعمدته وسقفه، هو الآن هُنا ليس في التلفاز قريبًا مني، كيف لي أن أبتعد.
أتناول معه الطعام، يبدو شهيًا، لذيذًا، مُشبعًا، كانت أمي تُعد اللحم دائمًا، ولا أفضلّه ليومنا هذا لكني حينها آكله بتلذذ، تبدو آثار اللقيا فاتحة لشهيتي، بطريقة تُدهش حتى عائلتي.
بعد أن ينتهي من الأكل، كنت أرتكي على فخذه، ليحكي لنا قصص الحج، مواقفه ومغامراته، من قابل وما شاهد، وما الذي اشترى لنا، فاسأله بعد كُل الحكاوي: “دعيتلنا؟” وأقصد بالجمع نفسي، فيجيب ضاحكًا ممسكًا بأنفي: “اممم لا”.
بوصوله يهجرني الأرق، وأنام بسعادة بالغة، كأني امتلك الدنيا، بنجومها ومحاسنها وفضائلها، يبدو حينها بيتنا أكثر رحابة، و وجهي أكثر إشراقًا، وصوت قرشعة المفاتيح أكثر طربًا؛ لتأكدي بأن القادم هو أبي، ليس أخي الذي يحاول تقليده!
دائمًا ما استنكر أي شخص يتعجب من فقداني الشديد لأبي في عيد الأضحى ذاك الوقت، على الرغم من كونها 10 أعوام متتالية إلا أني لم أعتد بعد، قلبي لم يرغب بذلك.
واليوم بعد أن انقضت تلك الأعوام، أفرح بعيد الأضحى أكثر لوجوده، أسعد بيوم ميلادي أكثر، نشاهد الحجاج في التلفاز معًا، يستذكر كل مواقفه واستمع له، وقلبي يردد باسمًا حامدًا: “هو هُنا الآن، أمامي بجانبي”.
**
حفظ الله أبي لعينيّ و روحي وقلبي، حفظ لكم آبائكم، ورحم من مات منهم، وجمعنا في فردوسه الأعلى يا ربّ.. آمين.
تمت في الثلاثاء :
الثاني والعشرون من جون|٢٠٢١م
الثاني عشر من ذي القعدة|١٤٤٢هـ
٦:٤٨ ص
قصة جميلة جداً وفيها دافع كبير بأن يهتم الآباء بأبنائهم وبناتهم ويفردوا لهم مساحة كافية من الوقت بقدر حوجة اﻷبناء لهم
نسأل الله أن يحفظ لك والدك ويحفظ الود بينكما
إعجابLiked by 1 person