منذ ٢٠٠٤.

الأول من سبتمبر| إرث.

جلست مع أمي على أحد أول عتبات منزلنا، حيثّ الباب الحديديّ البُنيّ شامخٌ أمامنـا، لأول مرّة أنتبه لورقة بلاستيكية لم تنزع منذ تركيبه، مكتوب بها وقت تفصيله وتركيبه.. السادس عشر من شهر أكتوبر لعام ألفين وأربعة!

أي أني لم أكمل عقدي الأول بعد، وأختي التي تصغرني بأربع أعوام كانت طفلة رضيعة، وأختي الصُغرى لم تولد بعد!

لفت بي ذكريات كثيرة، أحداث كثيرة شهدها هذا الباب، عودة والدي بعد كُل حج، يدين أمي الناعمة دون تجاعيد حتى أحدث الزمن فيها خارطته، بل تَحسس نمو جميع أيادي عائلتي، ذهابي وعودتي من المدرسة الابتدائية والمتوسطة والثانوية وحتى الجامعة، وأيام تخرجي منها جميعًا، وأحوالي وأمزجتي، فأُلقي يدي عليه متعبة احيانًا، وفي ذروة حماستي احيانًا أُخرى، مُحبة مرة، وغاضبة في كثير من الأحيان، أُطل برأسي من خلاله على السماء باحثة عن منظر للغروب، أو ضاحكة لأسراب الحمام، أو متلهفة لرؤية القمر مكتملًا!

أتذكر أيدي والديّ حينما تلمسانه بعد عودتهم من يوم طويل، وأتذكر أحاديثي مع أخي الأصغر على جانب الباب لحين قدوم أبي من السيارة، أسمع قرشعة المفاتيح، وصوت تلامس الأكياس بأيدينا، جريّ أخي فوق الدرج ليحثني على سباقه.. وأعرف يقينًا أني لن أسبقه، لم أفعل ذلك إلا حين كُسرت قدمه كسرًا مضاعفًا !

شهد هذا الباب أحداثنا اللطيفة، السعيدة، المُبهجة، مثل فرحة أخي بشراء أول سيارة في حياته!

أو ذهاب أخي الآخر ليوم دوامه الأول بكل بهجة، أو مروري خلاله لدوامي الأول، كـ رهف ناضجة كبيرة، بعد أن كانت في الألفين وأربعة تقفز جريًا مع أولاد أخوالها، أو ارتداء أختي للمدرسة أول مرة، ألتقى هذا الباب بأيادي مُعظم صديقاتي، ويد شخص أُحبه.. احتفل بمباهج العائلة، وكان صدرًا مفتوحًا لأحزانها!

سمع صوتنا ونحن ننزل من الدرج لنستذكر دعاء الخروج بعد تلقين من أُمي، شاهدني وأنا أبكي خلسة وألوذ خلفه من أن يراني أحدهم، شهد مُعظم لقطاتي لصور السماء؛ فأنا لا أُصور غالبًا إلا بجانبه، وشهد ابتسامتي بعدها حينما أبعثها لصديقة أُحبها “رحابي انظري لسماء اليوم!”.

تأملنا ونحن نحمل أختي تارة على أيدينا، وحين بدأت تخطو فوق الدرج، ثم وهي تقفز قفزًا فوقه، حتى صارت اليوم شابة مراهقة تفوقني طولًا!

لا أنسى عبور حفيديّ العائلة، فصرنا بعدهما أعمامًا ووالديّ أجدادًا، كان حدثًا عميقًا وقريبًا للقلب.

كان مزلاجه صبورًا للغاية، تحمّل أمزجة أفراد عائلة كاملة، تعامل مع أحداثها بتأمل عميق.

منذ ألفين وأربعة، وهو شاهد عيان لكل هذا، وأحداث عائلية خاصة لم أذكرها، كم أنتمي للجمادات وأحبها، خصوصًا تلك ذات الذكرى والعميقة ذات الحكايا، يُضيف لها الإنسان من روحه، وتضيف له أُنس وجودها الخاص، ذكرني تأملي العميق لما عبر من خلال هذا الباب من أشخاص، وتغير حيواتهم، وأحداث، ومواقف.. بجماداتي التي أُحب، في غرفتي، وخزانتي، وحقائبي، مثل أكوام الكتب التي عانقت صفحاتها أصابعي أو ارتوت عينيّ دهشة من سطورها، أو مثل مرآتي أو سجادة غرفتي، أو مثل أكوابي المفضلة وانتمائي الشديد لها، فذاك من رحاب، وهنا من أمجاد، الأبيض هناك من أخي، والأخر من أُختي، ذا اللون الأزرق من خالتي، والشرقيّ هذا منيّ إليّ.. حتى يصير الاحتساء منها بروحانية خالصة، وضمّها بين الأكف لحظة حميمية.

وكثير من الجمادات حولي لها قُدسية المعنى، و روح الانسان فيّ تحورّها إلى تجربة دافئة، وكأنها امتدادي في اشياء ساكنة.

رسالة صُغرى:

مرحبًا بابُنـا البنيّ الشامخ، هذه أنا رهف عرفتني؟ بالتأكيد أنك تعرفني، تعرف صوتي حينما يجيئك مُدندنًا احيانًا بـ “يا إمي دولبني الهوى” وهو حق لا غناء وحسب، أو حين أُخبرك بقصيدة مفضلة ابتديها من منتصفها “حتى فساتيني التي أهملتها..”، أو قارئةً لأذكاري صباحًا أو مساءً، أو صامتة، أو ثائرة.. رهف التي تحرص على إغلاق مزلاجك بعد أن يمرّ الجميع، التي تستظل بك حتى تلتقط الصور، تتأملك اليوم بعينين شاكرة لك، لوقوفك بثبات رغم مُضيّ ١٧ عامًا، تعبت؟ أُدرك أنك حديدًا لا تشكو، ولكني أُحس بصدأك، لا بأس، أُقدرك، أرجو أن تنعم بوقوف مُريح، وأن تعبر الأقدام من خلالك بحنو، سأحرص على أن أفعل هذا.. أعدك، أُحبك.

تمت،

٩:٥٩ م.

3 رأي حول “منذ ٢٠٠٤.

  1. يااااه💜
    اخذتني القراءه للتأمل في الجمادات التي تحيط بي هذي اللحظة ، بدءًا من مكتبتي ومحتوياتها من كتب وبكراتٍ صوفيّه الى اكواب الاقلام المتنوعة وعلب الشاي المرصوفه فوق بعضها البعض !
    احببت تعبير الانتماء لها جدًا جدًا ، لعلّي أحيطها من الان فصاعدًا بتقدير مضاعف 💜💜💜
    شكرًا لحرفك رهف
    “كنت اذاكر وغيرت جوي قراءة هذه التدوينة💓”

    Liked by 1 person

    1. اهلًا أثير🌿
      حقيقةً شكرًا لكِ أنتِ، في المقابل وصلني تعليقك مثل دهشة لم أرتقبها، غمرتني وأنستني!
      كان الصداع يستنفر رأسي، لكن جاء تعليقك لطيفًا مُهدئ، طبع ابتسامة على وجهي.🤍
      بتعبير عاميّ “يا بخت” مكتبتك وبكراتك الصوفية وأكوابك وتلك الأقلام وعلب الشاي، أظنها ستنعم بانتماء مختلف.. أرجو هذا🙏🏻.
      ممتنة لكِ أثير جدًا، ثم.. مذاكرة طيّبة يا ربّ🤍🤍🤍🤍

      إعجاب

  2. تروقني التدوينات التي يتناول أصحابها علاقتهم مع الأشياء، وأعتبر ذلك مستوى مختلفًا من السمّو الروحي عن الأمور المادية (رغم ما يبدو من تناقض في الجُملة، لكنني أؤمن بصحتها)
    شكرًا لكِ رهف لمشاركتنا هذه المشاعر الطيبة مع باب داركم

    Liked by 1 person

أضف تعليق